معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

2- فكرة عن جمع القرآن الكريم

  • ١٥٣٧٦

فكرة عن جمع القرآن


 


 


* كيفية جمع القرآن.
* عرض الروايات في جمع القرآن.
* تناقضها وتضاربها.
* معارضتها لما دل على ان القرآن جمع على عهد الرسول.
* معارضتها للكتاب وحكم العقل.
* مخالفتها لإجماع المسلمين على أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر.
* الاستدلال بهذه الروايات يستلزم التحريف بالزيادة المتسالم على بطلانه.


ــ[237]ــ


ان موضوع جمع القرآن من الموضوعات التي يتذرع بها القائلون بالتحريف، إلى إثبات أن في القرآن تحريفا وتغييرا. وان كيفية جمعه مستلزمة - في العادة - لوقوع هذا التحريف والتغيير فيه.
فكان من الضروري أن يعقد هذا البحث إكمالا لصيانة القرآن من التحريف وتنزيهه عن أي نقص أو أي تغيير.
إن مصدر هذه الشبهة هو زعمهم بأن جمع القرآن كان بأمر من أبي بكر بعد أن قتل سبعون رجلا من القراء في بئر معونة، وأربعمائة نفر في حرب اليمامة فخيف ضياع القرآن وذهابه من الناس، فتصدى عمر وزيد بن ثابت لجمع القرآن من العسب، والرقاع، واللخاف، ومن صدور الناس بشرط أن يشهد شاهدان على أنه من القرآن، وقد صرح بجميع ذلك في عدة من الروايات، والعادة تقضي بفوات شيء منه على المتصدي لذلك، اذا كان غير معصوم، كما هو مشاهد فيمن يتصدى لجمع شعر شاعر واحد أو أكثر، إذا كان هذا الشعر متفرقا، وهذا الحكم قطعي بمقتضى العادة، ولا أقل من احتمال وقوع التحريف، فإن من المحتمل عدم إمكان إقامة


ــ[238]ــ


شاهدين على بعض ما سمع من النبي (صلى الله عليه وآله) فلا يبقى وثوق بعدم النقيصة.
والجواب:
إن هذه الشبهة مبتنية على صحة الروايات الواردة في كيفية جمع القرآن والأولى أن نذكر هذه الروايات ثم نعقبها بما يرد عليها.
أحاديث جمع القرآن:
1 ـ روى زيد بن ثابت. قال:
"أرسل إلي أبوبكر، مقتلَ أهل يمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القران، وإني أرى أن تأمر بجمع القران. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبوبكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان اثقل علي مما أمرني من جمع القرآن قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبوبكر يراجعني حتى شرح الله صدري، للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف، وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره:
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين


ــ[239]ــ


رؤوف رحيم 9: 128. فإن تولوا فقل حسبي الله لا الله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم: 129}.
حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر"(1).
2 ـ وروى ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه:
"ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق. فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة. فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحرث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق".
قال ابن شهاب: "وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري:
{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (33: 23).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: 6 / 98، كتاب تفسير القرآن، رقم الحديث: 4311.


ــ[240]ــ


فألحقناها في سورتها في المصحف" (1).
3 ـ وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن علي. قال:
"أعظم الناس في المصاحف أجراً أبوبكر، إن أبابكر أول من جمع ما بين اللوحين".
4 ـ وروى ابن شهاب. عن سالم بن عبدالله وخارجة:
"أن أبابكر الصديق كان جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل، فكانت الكتب عند أبي بكر حتى توفي، ثم عند عمر حتى توفي، ثم كانت عند حفصة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها، حتى عاهدها ليردنها إليها فبعثت بها إليه، فنسخ عثمان هذه المصاحف ثم ردها إليها فلم تزل عندها...".
5 ـ وروى هشام بن عروة، عن أبيه، قال:
"لما قتل أهل اليمامة أمر أبوبكر عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت. فقال: اجلسا على باب المسجد. فلا يأتينكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلا اثبتماه، وذلك لأنه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جمعوا القرآن".
6 ـ وروى محمد بن سيرين. قال: "قتل عمر ولم يجمع القرآن ".
7 ـ وروى الحسن:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: 6 / 99، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث: 2596. وهاتان الروايتان وما بعدهما إلى الرواية الحادية والعشرين مذكورة في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد: 2 / 43 ـ 52.


ــ[241]ــ


"أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة. فقال: إنا لله، وأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف".
8 ـ وروى يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب. قال:
"أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس، فقال: من كان تلقى من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح، والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه، فقام عثمان، فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان، فجاءه خزيمة بن ثابت، فقال: إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا: ما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله):
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم…}.
إلى آخر السورة، فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما قال اختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة".
9 ـ وروى عبيد بن عمير، قال:
"كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان، فجاءه رجل من الأنصار بهاتين الآيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم...} إلى آخرها. فقال عمر: لا أسألك عليها بينة أبدا،
كذلك كان رسول الله"(1).
10 ـ وروى سليمان بن أرقم، عن الحسن وابن سيرين، وابن شهاب الزهري. قالوا:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الروايات التي نقلناها عن المنتخب مذكورة في كنز العمال: 2 / 361، الطبعة الثانية، عدا هذه الرواية، ولكن بمضمونها رواية عن يحيى بن جعدة. (المؤلف).


ــ[242]ــ


"لما أسرع القتل في قراء القرآن يوم اليمامة قتل منهم يومئذ أربعمائة رجل، لقي زيد ابن ثابت عمر بن الخطاب، فقال له: إن هذا القرآن هو الجامع لديننا فإن ذهب القرآن ذهب ديننا، وقد عزمت على أن أجمع القرآن في كتاب، فقال له: انتظر حتى أسأل أبابكر، فمضيا إلى أبي بكر فأخبراه بذلك، فقال: لا تعجل حتى أشاور المسلمين، ثم قام خطيبا في الناس فأخبرهم بذلك. فقالوا: أصبت، فجمعوا القران، فأمر أبوبكر مناديا فنادى في الناس: من كان عنده شيء من القرآن فليجيء به..."
11 ـ وروى خزيمة بن ثابت. قال:
"جئت بهذه الآية: لقد جاءكم رسول من أنفسكم... إلى عمر بن الخطاب وإلى زيد بن ثابت. فقال زيد: من يشهد معك؟ قلت: لا والله ما أدري. فقال عمر: أنا أشهد معه ذلك".
12 ـ وروى أبو إسحق، عن بعض أصحابه. قال:
"لما جمع عمر بن الخطاب المصحف سأل: من أعرب الناس؟ قيل: سعيد بن العاص. فقال: من أكتب الناس؟ فقيل: زيد بن ثابت. قال: فليمل سعيد وليكتب زيد، فكتبوا مصاحف أربعة، فأنفذ مصحفا منها إلى الكوفة، ومصحفا إلى البصرة، ومصحفا إلى الشام، ومصحفا إلى الحجاز".
13 ـ وروى عبدالله بن فضالة. قال:
"لما أراد عمر أن يكتب الإمام أقعد له نفرا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل على رجل من مضر".
14 ـ وروى أبو قلابة. قال:


ــ[243]ــ


"لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون ويختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبا. فقال: أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا، وأشد لحنا، فاجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما، قال أبو قلابة: فحدثني مالك ابن أنس، قال أبو بكر بن أبي داود: هذا مالك بن انس جد مالك بن أنس. قال: كنت فيمن أملي عليهم فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف كتب إلى أهل الأمصار أني قد صنعت كذا وصنعت كذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم".
15 ـ وروى مصعب بن سعد. قال:
"قام عثمان يخطب الناس. فقال: أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، تقولون قراءة أبي، وقراءة عبدالله، يقول الرجل والله ما تقيم قراءتك، فاعزم على كل رجل منكم كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان ودعاهم رجلا رجلا، فناشدهم لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أمله عليك فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان. قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا سعيد بن العاص. قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد، فكتب زيد، وكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله) يقول: قد أحسن".


ــ[244]ــ


16 ـ وروى أبو المليح. قال:
"قال عثمان بن عفان حين أراد أن يكتب المصحف، تملي هذيل وتكتب ثقيف".
17 ـ وروى عبدالأعلى بن عبدالله بن عبدالله بن عامر القرشي. قال:
"لما فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه. فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها".
18 ـ وروى عكرمة. قال:
"لما أتى عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن. فقال: لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا".
19 ـ وروى عطاء:
"أن عثمان بن عفان لما نسخ القرآن في المصاحف، أرسل إلى أبي بن كعب فكان يملي على زيد بن ثابت، وزيد يكتب، ومعه سعيد بن العاص يعربه، فهذا المصحف على قراءة أبي وزيد".
20 ـ وروى مجاهد:
"ان عثمان أمر أبي بن كعب يملي، ويكتب زيد بن ثابت، ويعربه سعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحرث".
21 ـ وروى زيد بن ثابت:
"لما كتبنا المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوجدتها عند خزيمة بن ثابت {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه..} إلى {تبديلا}. وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين أجاز رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهادته بشهادة


ــ[245]ــ


رجلين".
22 ـ وقد أخرج ابن اشته، عن الليث بن سعد. قال:
"أول من جمع القرآن أبوبكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشهادة عدلين، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت. فقال: اكتبوها فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب، وإن عمر أتى بآية الرجم فلم نكتبها لأنه كان وحده" (1).
هذه أهم الروايات التي وردت في كيفية جمع القرآن، وهي ـ مع أنها أخبار آحاد لا تفيدنا علما ـ مخدوشة من جهات شتى:
1 ـ تناقض أحاديث جمع القرآن!
إنها متناقضة في أنفسا فلا يمكن الاعتماد على شيء منها، ومن الجدير بنا أن نشير إلى جملة من مناقضاتها، في
ضمن أسئلة وأجوبة:
* متى جمع القرآن في المصحف؟
ظاهر الرواية الثانية أن الجمع كان في زمن عثمان، وصريح الروايات الأولى، والثالثة، والرابعة، وظاهر البعض الآخر أنه كان في زمان أبي بكر، وصريح الروايتين السابعة، والثانية عشرة أنه كان في زمان عمر.
* من تصدى لجمع القرآن زمن أبي بكر؟
تقول الروايتان الأولى، والثانية والعشرون أن المتصدي لذلك هو زيد بن ثابت، وتقول الرواية الرابعة إنه أبوبكر نفسه، وإنما طلب من زيد أن ينظر فيما جمعه من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاتقان: 1 / 101، النوع 18.


ــ[246]ــ


الكتب، وتقول الرواية الخامسة ـ ويظهر من غيرها أيضا ـ أن المتصدي هو زيد وعمر.
*هل فوض لزيد جمع القرآن؟
يظهر من الرواية الأولى أن أبابكر قد فوض إليه ذلك، بل هو صريحها، فإن قوله لزيد: "إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فتتبع القرآن واجمعه" صريح في ذلك، وتقول رواية الخامسة وغيرها: إن الكتابة إنما كانت بشهادة شاهدين، حتى ان عمر جاء بآية الرجم فلم تقبل منه.
*هل بقى من الآيات ما لم يدون إلى زمان عثمان؟
ظاهر كثير من الروايات، بل صريحها أنه لم يبق شيء من ذلك، وصريح الرواية الثانية بقاء شيء من الآيات لم يدون إلى زمان عثمان.
* هل نقص عثمان شيئا مما كان مدونا قبله؟
ظاهر كثير من الروايات بل صريحها أيضا أن عثمان لم ينقص مما كان مدونا قبله، وصريح الرواية الرابعة عشرة أنه محا شيئا مما دون قبله، وأمر المسلمين بمحو ما محاه.
* من أي مصدر جمع عثمان المصحف؟
صريح الروايتين الثانية والرابعة: أن الذي اعتمد عليه في جمعه هي الصحف التي جمعها أبوبكر، وصريح الروايات الثامنة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة، أن عثمان جمعه بشهادة شاهدين، وباخبار من سمع الآية من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
* من الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن؟


ــ[247]ــ


تقول الرواية الأولى ان الذي طلب ذلك منه هو عمر، وأن أبابكر إنما أجابه بعد الامتناع فأرسل إلى زيد وطلب منه ذلك، فأجابه بعد الامتناع، وتقول الرواية العاشرة أن زيدا وعمر طلبا ذلك من أبي بكر، فأجابهما بعد مشاورة المسلمين.
* من جمع المصحف الإمام وأرسل منه نسخا إلى البلاد؟ صريح الرواية الثانية أنه كان عثمان، وصريح الرواية الثانية عشرة أنه كان عمر.
* متى ألحقت الآيتان بآخر سورة براءة؟
صريح الروايات الأولى، والحادية عشرة، والثانية والعشرين أن إلحاقهما كان في زمان أبي بكر، وصريح الرواية الثامنة، وظاهر غيرها أنه كان في عهد عمر.
* من أتى بهاتين الآيتين؟
صريح الروايتين الأولى، والثانية والعشرين أنه كان أبا خزيمة، وصريح الروايتين الثامنة، والحادية عشرة أنه كان خزيمة بن ثابت، وهما رجلان ليس بينهما نسبة أصلا، على ما ذكره ابن عبدالبر(1).
* بماذا ثبت أنهما من القرآن؟
بشهادة الواحد، على ما هو ظاهر الرواية الأولى، وصريح الروايتين التاسعة، والثانية والعشرين، وبشهادة عثمان معه، على ما هو صريح الرواية الثامنة، وبشهادة عمر معه، على ما هو صريح الرواية الحادية عشر.
* من عينه عثمان لكتابة القرآن وإملائه؟
صريح الرواية الثانية أن عثمان عين للكتابة زيدا، وابن الزبير، وسعيد،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي: 1 / 56.


ــ[248]ــ


وعبدالرحمن، وصريح الرواية الخامسة عشرة أنه عين زيدا للكتابة وسعيدا للإملاء، وصريح الرواية السادسة عشرة أنه عين ثقيفا للكتابة، وهذيلا للاملاء، وصريح الرواية الثامنة عشرة أن الكاتب لم يكن من ثقيف وأن المملي لم يكن من هذيل، وصريح الرواية التاسعة عشرة أن المملي كان أبي بن كعب، وأن سعيدا كان يعرب ما كتبه زيد، وهذا أيضا صريح الرواية العشرين بزيادة عبدالرحمن بن الحرث للاعراب.
2 ـ تعارض روايات الجمع:
إن هذه الروايات معارضة بما دل على أن القرآن كان قد جمع، وكتب على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد روى جماعة، منهم ابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والضياء المقدسي، عن ابن عباس. قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر: "بسم الله الرحمن الرحيم"؟ ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه السورة ذات العدد، وكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما أنزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، وقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: "بسم الله الرحمن الرحيم"


ــ[249]ــ


ووضعتهما في السبع الطوال (1).
وروى الطبراني، وابن عساكر عن الشعبي، قال:
"جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستة
من الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبوزيد وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاث"(2).
وروى قتادة، قال:
"سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبوزيد"(3).
وروى مسروق: ذكر عبدالله بن عمر وعبدالله بن مسعود، فقال:
"لا أزال أحبه، سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب"(4).
وأخرج النسائي بسند صحيح، عن عبدالله بن عمر، قال:
"جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله) في فقال: اقرأه في شهر..."(5).
وستجيء رواية ابن سعد في جمع أم ورقة القران.
ولعل قائلا يقول وإن المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين، وهذا القول دعوى لا شاهد عليها، أضف إلى ذلك أنك ستعرف أن حفاظ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منتخب كنز العمال: 2 / 48.
(2) نفس المصدر: 2 / 52.
(3) صحيح البخاري: 6 / 202، كتاب المناقب، باب القراء من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) رقم الحديث: 3526.
(4) المصدر السابق.
(5) الاتقان: 1 / 124، النوع: 20.


ــ[250]ــ


القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا أكثر من أن تحصى أسماؤهم، فكيف يمكن حصرهم في أربعة أو ستة؟!! وإن المتصفح لأحوال الصحابة، وأحوال النبي (صلى الله عليه وآله) يحصل له العلم اليقين بأن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن عدد الجامعين له لا يستهان به. وأما ما رواه البخاري بإسناده عن أنس، قال: مات النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، فهو مردود مطروح، لانه معارض للروايات المتقدمة، حتى لما رواه البخاري بنفسه. ويضاف إلى ذلك أنه غير قابل للتصديق به. وكيف يمكن أن يحيط الراوي بجميع أفراد المسلمين حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) على كثرتهم، وتفرقهم في البلاد، ويستعلم أحوالهم ليمكنه أن يحصر الجامعين للقرآن في أربعة، وهذه الدعوى تخرص بالغيب، وقول بغير علم.
وصفوة القول: أنه مع هذه الروايات كيف يمكن أن يصدق أن أبابكر كان أول من جمع القرآن بعد خلافته؟ وإذا سلمنا ذلك فلماذا أمر زيدا وعمر بجمعه من اللخاف، والعسب، وصدور الرجال، ولم يأخذه من عبدالله ومعاذ وأبي، وقد كانوا عند الجمع أحياء، وقد أمروا بأخذ القرآن منهم، ومن سالم؟ نعم إن سالما قد قتل في حرب اليمامة، فلم يمكن الأخذ منه. على أن زيدا نفسه كان أحد الجامعين للقرآن على ما يظهر من هذه الرواية، فلا حاجة إلى التفحص والسؤال من غيره، بعد أن كان شابا عاقلا غير متهم كما يقول أبوبكر، أضف إلى جميع ذلك أن أخبار الثقلين المتظافرة تدلنا على أن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما سنشير إليه.
3 ـ تعارض أحاديث الجمع مع الكتاب:
إن هذه الروايات معارضة بالكتاب، فإن كثيرا من آيات الكتاب الكريمة دالة


ــ[251]ــ


على أن سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض، وان السور كانت منتشرة بين الناس، حتى المشركين وأهل الكتاب، فان النبي (صلى الله عليه وآله) قد تحدى الكفار والمشركين على الإتيان بمثل القران، وبعشر سور مثله مفتريات، وبسورة من مثله، ومعنى هذا: أن سور القرآن كانت في متناول أيديهم.
وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة، وفي قول النبي (صلى الله عليه وآله): "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي" وفي هذا دلالة على أنه كان مكتوبا مجموعا، لأنه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كتب في اللخاف، والعسب، والاكتاف، إلا على نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة، فإن لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزءا غير مجتمع، فضلا عما إذا لم يكتب، وكان محفوظاً في الصدور فقط.
4 ـ مخالفة أحاديث الجمع مع حكم العقل!
إن هذه الروايات مخالفة لحكم العقل، فإن عظمة القرآن في نفسه، واهتمام النبي (صلى الله عليه وآله) بحفظه وقراءته، واهتمام المسلمين بما يهتم به النبي (صلى الله عليه وآله) وما يستوجبه ذلك من الثواب، كل ذلك ينافي جمع القرآن على النحو المذكور في تلك الروايات، فإن في القرآن جهات عديدة كل واحدة منها تكفي لأن يكون القرآن موضعا لعناية المسلمين، وسببا لاشتهاره حتى بين الأطفال والنساء منهم، فضلا عن الرجال. وهذه الجهات هي:
1 ـ بلاغة القرآن: فقد كانت العرب تهتم بحفظ الكلام البليغ، ولذلك فهم يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها، فكيف بالقرآن الذي تحدى ببلاغته كل بليغ،


ــ[252]ــ


وأخرس بفصاحته كل خطيب لسن، وقد كانت العرب بأجمعهم متوجهين إليه، سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن يحفظه لإيمانه، والكافر يتحفظ به لأنه يتمنى معارضته، وإبطال حجته.
2 ـ إظهار النبي (صلى الله عليه وآله) رغبته بحفظ القرآن، والاحتفاظ به: وكانت السيطرة والسلطة له خاصة، والعادة تقضي بأن الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته فإن ذلك الكتاب يكون رائجا بين جميع الرعية، الذين يطلبون رضاه لدين أو دنيا.
3 ـ إن حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس، وتعظيمه عندهم: فقد علم كل مطلع على التاريخ ما للقراء والحفاظ من المنزلة الكبيرة، والمقام الرفيع بين الناس، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة، أو بحفظ القدر الميسور منه.
4 ـ الأجر والثواب الذي يستحقه القارئ والحافظ بقراءة القرآن وحفظه: هذه أهم العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به، وقد كان المسلمون يهتمون بشأن القرآن، ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، وبما يهمهم من مال وأولاد. وقد ورد أن بعض النساء جمعت جميع القرآن.
أخرج ابن سعد في الطبقات: "أنبأنا الفضل بن دكين، حدثنا الوليد بن عبدالله بن جميع، قال: حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبدالله بن الحارث، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يزورها، ويسميها الشهيدة وكانت قد جمعت القرآن، ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين غزا بدرا، قالت له: أتأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم وامرض مرضاكم لعل الله يهدي لي شهادة؟ قال: إن الله مهد لك شهادة…"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاتقان: 1 / 125، النوع 20.


ــ[253]ــ


وإذا كان هذا حال النساء في جمع القرآن فكيف يكون حال الرجال؟ وقد عد من حفاظ القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) جم غفير. قال القرطبي: "قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ببئر معونة مثل هذا العدد"(1).
وقد تقدم في الرواية "العاشرة" أنه قتل من القراء يوم اليمامة أربعمائة رجل على أن شدة اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله) بالقرآن، وقد كان له كتاب عديدون، ولا سيما أن القرآن نزل نجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة، كل هذا يورث لنا القطع بأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد أمر بكتابة القرآن على عهده.
روى زيد بن ثابت، قال: "كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) نؤلف القرآن من الرقاع". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وفيه الدليل الواضح: أن القرآن إنما جمع على عهد رسول الله (2).
وأما حفظ بعض سور القرآن أو بعض السورة فقد كان منتشرا جدا، وشذ أن يخلو من ذلك رجل أو امرأة من المسلمين. روى عبادة بن الصامت قال:
"كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن"(3).
وروى كليب، قال:
"كنت مع علي (عليه السلام) فسمع ضجتهم في المسجد يقرؤون القران، فقال: طوبى لهؤلاء..."(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاتقان: 1 / 122، النوع 20، وقال القرطبي في تفسيره: 1 / 59: وقتل منهم "القراء" في ذلك اليوم "يوم اليمامة" فيما قيل سبعمائة.
(2) سنن الترمذي: كتاب المناقب، رقم الحديث: 3889. ومسند احمد: مسند الانصار، رقم الحديث: 20622.
(3) مسند احمد: 5 / 325، كتاب باقي مسند الانصار، رقم الحديث: 21703.
(4) كنز العمال: 2 / 185، الطبعة الثانية. فضائل القرآن.


ــ[254]ــ


وعن عبادة بن الصامت أيضا:
"كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا"(1).
نعم إن حفظ القرآن ولو ببعضه كان رائجا بين الرجال والنساء من المسلمين، حتى أن المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة من القرآن أو أكثر(2) ومع هذا الاهتمام كله كيف يمكن أن يقال: إن جمع القرآن قد تأخر إلى زمان خلافة أبي بكر، وإن أبابكر احتاج في جمع القرآن إلى شاهدين يشهدان أنهما سمعا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
5 ـ مخالفة أحاديث الجمع للإجماع:
إن هذه الروايات مخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبة من أن القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر، فإنها تقول: إن إثبات آيات القرآن حين الجمع كان منحصرا بشهادة شاهدين، أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين، وعلى هذا فاللازم أن يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضا، وهل يمكن لمسلم أن يلتزم بذلك؟ ولست أدري كيف يجتمع القول بصحة هذه الروايات التي تدل على ثبوت القرآن بالبينة، مع القول بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، أفلا يكون القطع بلزوم كون القرآن متواترا سببا للقطع بكذب هذه الروايات أجمع؟
ومن الغريب أن بعضهم كابن حجر فسر الشاهدين في الروايات بالكتابة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مناهل العرفان. ص 324.
(2) رواه الشيخان، وأبو داود والترمذي والنسائي. التاج: 2 / 332.


ــ[255]ــ


والحفظ (1). وفي ظني أن الذي حمله على ارتكاب هذا التفسير هو ما ذكرناه من لزوم التواتر في القرآن. وعلى كل حال فهذا التفسير واضح الفساد من جهات: أما أولا: فلمخالفته صريح تلك الروايات في جمع القرآن، وقد سمعتها.
وأما ثانيا: فلان هذا التفسير يلزمه أنهم لم يكتبوا ما ثبت أنه من القرآن بالتواتر، إذا لم يكن مكتوبا عند أحد، ومعنى ذلك أنهم أسقطوا من القرآن ما ثبت بالتواتر أنه من القرآن.
وأما ثالثا: فلأن الكتابة والحفظ لا يحتاج إليهما إذا كان ما يراد كتابته متواترا، وهما لا يثبتان كونه من القرآن، إذا لم يكن متواترا. وعلى كل حال فلا فائدة في جعلهما شرطا في جمع القرآن.
وعلى الجملة لابد من طرح هذه الروايات، لأنها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين.
6 ـ أحاديث الجمع والتحريف بالزيادة!
أن هذه الروايات لو صحت، وأمكن الاستدلال بها على التحريف من جهة النقص، لكان اللازم على المستدل أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة في القرآن أيضا، لأن كيفية الجمع المذكورة تستلزم ذلك، ولا يمكن له أن يعتذر عن ذلك بأن حد الإعجاز في بلاغة القرآن يمنع من الزيادة عليه، فلا تقاس الزيادة على النقيصة، وذلك لأن الإعجاز في بلاغة القرآن وإن كان يمنع عن الإتيان بمثل سورة من سوره، ولكنه لا يمنع من الزيادة عليه بكلمة أو بكلمتين، بل ولا بآية كاملة، ولا سيما إذا كانت قصيرة، ولولا هذا الاحتمال لم تكن حاجة إلى شهادة شاهدين، كما في روايات
ــــــــــــــــــــــــــــ
(4) الاتقان: ص 100، النوع 18.


ــ[256]ــ


الجمع المتقدمة، فإن الآية التي يأتي بها الرجل تثبت نفسها أنها من القرآن أو من غيره. وإذن فلا مناص للقائل بالتحريف من القول بالزيادة أيضا وهو خلاف إجماع المسلمين.
وخلاصة ما تقدم، أن إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم، مخالف للكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، فلا يمكن لقائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه، ولو سلمنا أن جامع القرآن هو أبوبكر في أيام خلافته، فلا ينبغي الشك في أن كيفية الجمع المذكورة في الروايات المتقدمة مكذوبة، وان جمع القرآن كان مستندا إلى التواتر بين المسلمين، غاية الأمر أن الجامع قد دون في المصحف ما كان محفوظا في الصدور على نحو التواتر.
نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة.
قال الحارث المحاسبي: "المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القران.."(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاتقان: 1 / 103، النوع 18.


ــ[257]ــ


منع عن الاختلاف في القرآن، ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين، حتى سموه بحراق المصاحف.
أقول: أما أن عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأنه منع عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، التي تقدم توضيح بطلانها. أما هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين، وذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضا. وقد مر فيما تقدم بعض الروايات الدالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله)
النتيجة:
ومما ذكرناه: قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه يجب القول به. والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته.